ملخص المحاضرة: البحث في السياسة الشرعية يقتضي - ضرورة - العناية بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان إمامًا وحاكمًا يُدير شؤون الناس، ويحقق مصالحهم، فسياسته من الأصول المركزية للسياسة الشرعية، وقبل البدء في ذكر السياسة النبوية ينبغي التأكيد على أنّه لا يُمكن الإحاطة بسياسة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأننا نتحدّث عن سياسة رسول حكم المسلمين مدة طويلة، وكان فيها أحداث كثيرة. المحور الأول: السياسة في الإسلام محفّز هذا المحور معاصر، فلم يكن في تاريخ المسلمين السياسي أو الفقهي: سؤال: هل السياسة من الإسلام؟، هذا السؤال حداثي معاصر نشأ بسبب هيمنة الثقافة الغربية وتصديرها لنموذجها العلماني الذي يجعل الدين علاقة بين العبد وربّه، وليس قانونًا مُلزمًا، والمسلمون من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قُبيل الاستعمار وهم يتحاكمون إلى الشريعة، ويرون أن الإسلام نظام حياة شامل للجوانب السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأسرية. وهناك طرف آخر مقابل للطرف العلماني غلا في هذا الجانب، وهذه الزيادة تتجلى في بعض الناس الذين رفعوا السياسة عن وزنها الشرعي، حتى جعل بعض الناس الأحكام السياسة هي الأصل في الشريعة، وفسّروا كلّ أحكام الشريعة على أنّها ذات هدف سياسي، وجعلوا كلّ حكم لا يدخل في الإطار السياسي مهمّشًا، وهذه الصورة هي من أعراض مرض منتشر في عصرنا، وهو: الاعتناء بجزء من الدين، ورفعه عن وزنه الطبيعي، وجعله هو الأصل والغاية، وبقية أحكام الشريعة تبع له، ومن صور ذلك: (الحرية، والعدالة الاجتماعية، والأخلاق)، وهذه الطريقة لا بدّ أن يتبعها تحريف لأحكام الشريعة، أو يُضعف - على أقلّ تقدير - أيَّ حُكم يراه منافيًا للأمر الذي جعله أصلًا. والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُقم دولة طيلة العهد المكي، ومع ذلك كان الدين قائمًا، والمؤمن كامل الإيمان، وهذا يعني أنه ليس بالضرورة وجود نظام سياسي في كلّ زمان ومكان، إلّا إذا تحققت الشروط. المحور الثاني: حكم طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجانب السياسي لا شك في أنّ الأحكام السياسية النبوية داخلة في طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو كان مبلّغًا للوحي، وقاضيًا وإمامًا للمسلمين، وكان المسلمين يطيعونه باعتبارين: أ- باعتبار كونه حاكمًا، وهذا يكون لكلّ حاكم بعده. ب- باعتبار الأحكام التي يضعها ويبيّنها فيما يتعلّق بالجانب القضائي أو السياسي. وهناك إشكال عند بعض المعاصرين، وهو: أنّ سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - استمدّها الرسولُ وأخذ مشروعيّتها بعد حصول بيعة العقبة، وهذا الكلام له معنيان: الأول: بُعد تاريخي، وهو: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تحققت له دولة، ومارس السياسة كحاكم بعد بيعة العقبة، وهذا الأمر لا ثمرة من تقريره. الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينل مشروعية الحكم إلّا بعد هذه البيعة، فلو لم يُبايعوه، أو بايعوا ثم تراجعوا، فليس له المشروعية أن يكون حاكمًا. ولا شكّ في أن المعنى الثاني فيه مجاوزة صريحة للأدلة، والذي دفع بعض المعاصرين لتبني مثل هذا الرأي: إشكالية التجاوز في الاعتبار السياسي، وإشكالية محاولة تخريج النظام السياسي الإسلامي وفق المنظومة السياسية الديمقراطية، وأنه لا بد من اختيار الحاكم من الناس. والجواب عن هذا من وجوه: أ- أن هذا يمكن أن يكون في غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما هو فإنّه يُطاع لأنه نبيّ، فولايته السياسية على الأمة جزء من نبوّته - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُتصوّر أن يقول شخص: بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في الجانب السياسي، فإنّي سأبايع به قريشًا! ب- دخول المسلم في الإسلام يقتضي طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلّ الجوانب. جـ- أن الله - تعالى - أمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا دون تقييد. د- ما حصل من مبايعة من الصحابة هو التزام منهم بأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وليس يعني أنهم قدموا مشروعية له. المحور الثالث: التمييز بين التصرفات النبوية تصرفات النبي - صلى الله عليه وسلم - تكون بعدة اعتبارات، فمن ذلك: أ- تصرفات باعتباره مبلغًا للوحي، وهذه التصرفات شرع لازم لكلّ الناس. ب- تصرفات باعتباره قاضيًا بين الناس، وهذه التصرفات تختص بالقضاة. جـ- تصرفات باعتباره حاكمًا على الناس، وهذه التصرفات تختص بالأئمة. مثال ذلك: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحيا أرضًا مَيتةً فهي له» اختلف الفقهاء في التصرف النبوي هنا: - ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّه تصرف باعتباره مبلغًا، وعليه؛ فهذا حكم لجميع المسلمين في كلّ زمان ومكان. - وذهب الحنفية والمالكية إلى أنّه تصرف باعتباره حاكمًا، وعليه؛ فهذا ليس في كلّ زمان ومكان، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه إمام المسلمين في ذلك الزمن أراد تحقيق مصلحة في ذلك؛ فحثّهم على هذا الأمر، وعليه؛ فليس كلّ شخص بعده يفعل هذا فينال الأرض، لكن الحاكم إذا رأى مصلحة في ذلك يحث الناس على هذا الفعل. ومن أنواع التصرفات كذلك: - التصرف بهدف الصلح. - التصرف بهدف النصح. - التصرف بهدف التأديب. - التصرف بهدف المشورة. وهذا يؤكد لنا دقة وعمق النظر الفقهي في الأحكام، فالفقهاء لا يقرؤون الأحكام بطريقة سطحية كما يظن بعض المعاصرين، بل لديهم غوص في المعاني والمقاصد. تتمة👇
قواعد في التمييز بين التصرفات النبوية: الأولى: التشريع هو الغالب في التصرفات النبوية، ولا يُعدل عن ذلك إلا بدليل. الثانية: ضرورة مراعاة القرائن التي يتوصّل بها الشخص إلى أنّ هذا التصرف بهذا الاعتبار المعيّن. الثالثة: ضرورة الوعي بكلّ تصرف؛ حتى يتوصّل لطبيعة التصرف، فالعبادات - مثلًا - لا يُتصوّر أن يكون التصرف النبوي فيها باعتباره قاضيًا. انحراف معاصر في باب التصرفات النبوية: ذهب بعض المعاصرين إلى أنّ التصرفات التي في الجانب السياسي كلّها مبنية على المصلحة المتغيّرة فهي ليست شرعًا لازمًا، وصاحب هذا الانحراف وقع في غلطين: الأول: جعل كلّ باب السياسة داخل في التصرفات النبوية التي باعتباره إمامًا، وهذا خطأ، فإذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم واجب في السياسة فهذا واجب ملزم. الثاني: إلغاء الشرعية عن التصرفات التي باعتبار الإمامة، وهذا خطأ، فنحن لا نقول: هذه التصرفات ليست من الشريعة، وإنما نقول: هي مختصّة بالقضاة، أو الأئمة، وبعد ذلك قد تكون مباحة، أو مستحبة، أو واجبة. مثال ذلك: أقام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحدود باعتباره إمامًا، وهذا يعني أن إقامة الحدود خاص بالأئمة، فهو متعلق بهم، فلا يقيمه آحاد الناس، وإنما هو واجب على الأئمة. المحور الرابع: الجوانب السياسية في سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - يمكن تقسيم السياسة النبوية من حيث ارتباطها بالسياسة الشرعية وكيفية استنباط الأحكام منها إلى مجالين: الأول: التطبيق العملي للأحكام (التصرفات السياسية). الثاني: القواعد والفروع الجزئية. التطبيق العملي للأحكام هذه هي التصرفات السياسية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أدار شؤون الدولة خلال المرحلة المدنية، وقام فيها بكل أحكام الأئمة، ويمكن تلخيصها في عدة ركائز: الأولى: تفويض المهام، فكان يعيّن الأمراء، ويرسل السفراء، ويجبي الزكاة، ويرسل البعوث، وغير ذلك. الثانية: حفظ حقوق الناس. الثالثة: إقامة الواجبات الشرعية. الرابعة: التصرّف الأمور المخيّرة؛ كالتخيير في الأسرى. الخامسة: التصرف في الأمور المباحة، الموكولة إليه باعتبار المصلحة؛ كعقد الصلح، والتعزير. هذه الركائز موكولة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السلاطين والأمراء. القواعد والفروع الجزئية هذه القواعد تتعلق بنظر فقهي في تفاصيل الأحكام، فهي ليست من باب الواجبات والمصالح المنوطة بالحُكَّام، وهي تفيدنا في الجانب السياسي من جهتين: أ- أنها تعلمنا كيفية التعامل عند تعارض المصالح والمفاسد. ب- أنها تكشف عن أوجه معتبرة في السياسة. وهذه الأحكام كثيرة جدًا، منها: الأول: ترك قتل المنافقين، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقتل المنافقين في زمانه، وكان يقول: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»، وسبب تركه لقتلهم: لئلا يكون سببًا للطعن في شخصه بأنه يقتل ويعاقب كغيره من الرؤساء والحكام. وذكر العلماء أن عدم المعاقبة ترجع إلى أمرين: أ- لأخذ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالظاهر، وإن كان يعلم حقيقة حالهم. ب- للاشتباه في حالهم، وقد كان هذا الاشتباه إما لأنّهم كانوا يعرّضون ولا يصرّحون، أو لأنّ أمرهم لم يكن ظاهرًا لكلّ الناس. س: بعض المنافقين كان قد ثبت عليه وجهر بالطعن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك لم يُقتلوا، فلماذا؟ الجواب: للعلماء في ذلك مسالك: أ- أن هذا الأمر منسوخ، فكان في أوّل الأمر حماية للرسالة من أن يُطعن فيها. ب- أن هذا الأمر لا يُعمل به إلا في مثل الحال التي كان المسلمون فيها، فإذا لم يكن عند المسلمين قوة وسلطة على مَن يطعن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يتركونه. جـ- أن يكون في إقامة ذلك تنفير أقوام عن الإسلام وإقامة حرب وفتنة، فإذا انتفى ذلك فإن المفاسد التي هي اقل لا يُلتفت إليها. وهذه القاعدة التي نتحدث عنها شائعة في عصرنا، لكنّ اللافت هو ضعف إدراك حدود إعمال هذه القاعدة، فهي تستعمل - أحيانًا - بلا ضوابط، فمثلًا: بعض الناس صاروا يبعدون بعض الأحكام التي لا ترتضيها الثقافة الغربية محتجين بذلك، وهذا خطأ منهجي كبير، فلا يصح انتقاء قاعدة واحدة من الشريعة وهدم بقية القواعد. أمور معينة على ضبط هذه القاعدة: أ- هناك مساحة واسعة من الشريعة قد حافظت الشريعة عليها ولم تلتفت للمعترضين، ومن ذلك: «الحدود»، و«تشريع الجهاد والسبي والغنائم»، و«قتل صناديد الكفار»، و«الأمر القرآني بجهاد المنافقين والإغلاظ عليهم». ب- أن يكون الشخص في مقام تنزيل واقعة على أعيان، ووقع فيها اشتباه، وخشي من مفسدة، فهنا تُراعى هذه القاعدة. وبعض المعاصرين ممن يستخدم هذه القاعدة يكون إشكاله الحقيقي مع الحكم نفسه - كحد السرقة - فاستخدامه ليس نابعًا من الاشتباه في واقع معيّن. الآثار المستفادة من هذا الحكم السياسي: أ- العناية بسمعة الإسلام وشرح محاسنه. ب- مراعاة أفهام المخاطبين، واتّخاذ الأسلوب المناسب في تعليمهم. جــ- تعميق قاعدة «درء الحدود بالشبهات». د- الاجتهاد في بيان الحكم الشرعي، وشرح حدوده، وإزالة الغلو والتفريط المتلبس به. هـ- عدم إقامة الحدود والعقوبات إلا بسلطة وضمانات قضائية.
الثاني: ترك إعادة بناء الكعبة: عن عائشة - رضي الله عنها - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «ولَوْلا أنّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بالجاهِلِيَّةِ، فأخافُ أنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ، أنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ في البَيْتِ، وأَنْ أُلْصِقَ بابَهُ بالأرْضِ» ففي هذا ترك لإعادة بناء الكعبة على ما كانت عليه من قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - خشية نفور الناس؛ لأنهم كانوا يعظّمون الحرم. وهذه القاعدة لها ارتباط بالقاعدة السابقة، فالأولى تراعي تنفير الكفار، والثانية تراعي تنفير المسلمين. حكم إعادة بناء الكعبة: جاءت إشكالات من المعاصرين على هذه القاعدة كما جاء على القاعدة السابقة، فأصل القاعدة صحيح، لكنّه بحدود، وبمعرفة حكم إعادة بناء الكعبة نُدرك حدود هذه القاعدة. ظاهر كلام أهل العلم أنّ هذا الأمر ليس واجبًا، وإنما مستحب، ومما يدلّ على ذلك: أ- أن الأحكام والعبادات المتعلقة بالكعبة لا تتأثر بذلك. ب- أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بإعادة بنائها، ولم يوصِ مَن بعده بذلك. وقد سمع عبدُ الله بن الزبير بهذا الحديث فاستشار الصحابةَ بإعادة بناء الكعبة، فأشار عليه جماعة منهم بالتأييد، وآخرون بالرفض، فأخذ برأي المؤيدين، فهدم الكعبة وأعاد بناءها على قواعد إبراهيم، ثم لما قُتل وجاء الحجاج بن يوسف، أرسل إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك، فأمر بإعادة بنائها كما كانت، ثم ندم لما وصله حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاء أبو جعفر المنصور فأراد هدمها وبناءها على قواعد إبراهيم، فقال له الإمام مالك: «يا أمير المؤمنين، لا تجعل بيت الله ألعوبة بيد الملوك، كلما جاء ملك قال: أهدم، ثم أبني» فتركه أبو جعفر. قاعدة اعتبار النفور في الشريعة: من الحكم الذي بين أيدينا يتبيّن لنا مراعاة نفور الكفار والمسلمين عن الإسلام، ومع ذلك ينبغي مراعاة هذا الأمر وضبطه، فليس كل عمل منفّر يُترك، ولتحرير هذا لا بد من النظر في قاعدة: «اعتبار النفور في الشريعة»، وعند تتبع الموضوع نجد ما يلي: أ- أنّ ثمّة أحكامًا حصل فيها إشكال مؤثر في نفور الناس، ولم يتركها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك: «صلح الحديبية»، و«تقسيم غنائم حنين»، و«تحريق نخل اليهود في غزوة بني النضير». ب- أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غيّر عادات جاهلية كان الناس يستبشعون تغييرها، ومن ذلك: «مخالفتهم في الحج». جـ- فرض بعض الأحكام المؤدية لنفور الناس، ومن ذلك: «تغيير القبلة». وبناء على ما سبق كلّه؛ فإن مراعاة النفور يكون في الأمور المستحبة دون الواجبة إلا في حدّ معين سيأتي ذكره. تعارض إقامة الواجب مع مفسدة نفور الناس: إذا وقع تعارض بين مصلحة إقامة الواجب ونفور الناس منه؛ فإن إقامة الواجب تقدّم؛ لأمور، منها: أ- أن ذلك هو الأصل. ب- أن مصلحة الواجب يقينية، ومفسدة النفور ظنّية. جـ- أنه يمكن الجمع بين الأمرين، وذلك بإقامة الواجب ودفع النفور بأساليب أخرى، أما ترك الواجب؛ فسيكون فيه مصلحة واحدة فقط. د- أن دفع مفسدة النفور لا يتحقق بترك الواجب، بل يتعمق؛ لأنه سيقع في نفوس الناس أن هذا الواجب خطأ. قيد لما سبق: سبق الكلام أن مراعاة النفور تكون في المستحبات، وهذا من حيث الوضع الطبيعي لتطبيق الأحكام، ووجود نظام مستقر يطبق الأحكام ويقيم الحدود، أما إذا وقعت حالات استثنائية، فهنا يختلف الحال، ومن ذلك: «عدم وجود نظام يحكم الناس»، أو «وقوع فتنة واضطراب الأحوال»، والأمر هنا انتقل من النفور عن الإسلام إلى العجز وعدم القدرة التي سيترتب عليها مفاسد أعظم. من مجالات الاستفادة من هذه القاعدة: أ- أنه إذا ترتب على إنكار المنكر نفور من الناس؛ فإنه يُترك، وهذا متعلق بالأفراد، وليس بالسلطة. ب- ترك بعض المستحبات بقصد التآلف والاجتماع. جـ- تأخير بعض الواجبات التي لم توجب الشريعة المبادرة فيها. د- التدرج في تعليم الأحكام لحديثي الإسلام. هـ- تعليم الناس والرفق بهم في ذلك تأليفًا لهم. و- الإفتاء بالأيسر من الأحكام إذا خُشي على بعض الناس النفور من الدين. ز- تجنب ما يشقّ على الناس؛ كالتطويل في الصلاة. حـ- مراعاة عادات وأعراف الناس إلا في الواجبات
الثالث: قصة مقتل كعب بن الأشرف، ففي هذه القصة عدة أحكام مستفادة، منها: أ- حكم الكذب في الحرب. ب- حكم نقض العهد. جـ- حكم المعاريض في نقض العهد. د- شبهة الأمان. هـ- حكم سابّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -. و- حكم التعريض بالكفر إذا كان لمصلحة، وذلك أن محمد بن مسلمة قال: «إن محمدًا قد عنّانا»، وقد اختلف العلماء في هذا القول هل هو من باب التصريح أو التعريض؟ الأكثر منهم على أنه تعريض، وذهب بعضهم إلى أنه تصريح، ثم طُرح سؤال، وهو: هل يجوز التصريح بالكفر للمصلحة؟ أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أقوال: القول الأول: أن هذا كان من باب الإكراه، وهذا ضعيف؛ لأن الإكراه لم يقع - حقيقة -. القول الثاني: أنه إذن خاص من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن مسلمة. القول الثالث: جواز ذلك عند الحاجة الشديدة الضرورية التي تمسّ عموم المسلمين، ويستدلون لذلك بعدم التخصيص من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يُقال: الاستدلال المحتمل لا يعمم. الرابع: إعطاء المؤلفة قلوبهم، وتفضيلهم في العطاء يوم حُنين. الخامس: وقائع الشورى في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. السادس: تغليب العفو في السياسة النبوية، والقاعدة المستفادة من ذلك: «أن العفو هو الأصل إلا إذا اقتضى الحكم العقابَ». السابع: عرض الصُلح على غَطَفان في واقعة الأحزاب، فعرض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليهم أن يعطيهم نصف ثمار المدينة على أن يرجعوا، وهذا يدل على مشروعية بذل الأموال لحفظ نفوس المسلمين. الثامن: وقائع العقوبات والتعازير في السياسة النبوية، ومن ذلك: «هجر مَن تخلف عن غزوة تبوك»، و«همّ بحرق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة». التاسع: صلح الحديبية وما جاء فيه من تصرفات نبوية. العاشر: السياسة النبوية في دعوة الناس. الحادي عشر: تقييد المباح لمصلحة، ومن ذلك: «النهي عن ادّخار لحوم الأضحية فوق ثلاث». الثاني عشر: تأخير إقامة الحد لمصلحة، ومن ذلك: «تأخيره إقامة الحدّ على المرأة لأنها كانت حاملًا».
رضي الله عنك مولانا
المحاضرات المتعلقة بالسياسة الشرعية يشرحها من كتاب ولا بحث من الدكتور؟
تفصيل متاع الحقيقة. جزاك الله خير❤️
قمت بجمع الفوائد على شكل مقاطع صغيرة
اكثر من رائع
ملخص المحاضرة:
البحث في السياسة الشرعية يقتضي - ضرورة - العناية بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان إمامًا وحاكمًا يُدير شؤون الناس، ويحقق مصالحهم، فسياسته من الأصول المركزية للسياسة الشرعية، وقبل البدء في ذكر السياسة النبوية ينبغي التأكيد على أنّه لا يُمكن الإحاطة بسياسة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأننا نتحدّث عن سياسة رسول حكم المسلمين مدة طويلة، وكان فيها أحداث كثيرة.
المحور الأول: السياسة في الإسلام
محفّز هذا المحور معاصر، فلم يكن في تاريخ المسلمين السياسي أو الفقهي: سؤال: هل السياسة من الإسلام؟، هذا السؤال حداثي معاصر نشأ بسبب هيمنة الثقافة الغربية وتصديرها لنموذجها العلماني الذي يجعل الدين علاقة بين العبد وربّه، وليس قانونًا مُلزمًا، والمسلمون من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قُبيل الاستعمار وهم يتحاكمون إلى الشريعة، ويرون أن الإسلام نظام حياة شامل للجوانب السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأسرية.
وهناك طرف آخر مقابل للطرف العلماني غلا في هذا الجانب، وهذه الزيادة تتجلى في بعض الناس الذين رفعوا السياسة عن وزنها الشرعي، حتى جعل بعض الناس الأحكام السياسة هي الأصل في الشريعة، وفسّروا كلّ أحكام الشريعة على أنّها ذات هدف سياسي، وجعلوا كلّ حكم لا يدخل في الإطار السياسي مهمّشًا، وهذه الصورة هي من أعراض مرض منتشر في عصرنا، وهو: الاعتناء بجزء من الدين، ورفعه عن وزنه الطبيعي، وجعله هو الأصل والغاية، وبقية أحكام الشريعة تبع له، ومن صور ذلك: (الحرية، والعدالة الاجتماعية، والأخلاق)، وهذه الطريقة لا بدّ أن يتبعها تحريف لأحكام الشريعة، أو يُضعف - على أقلّ تقدير - أيَّ حُكم يراه منافيًا للأمر الذي جعله أصلًا.
والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُقم دولة طيلة العهد المكي، ومع ذلك كان الدين قائمًا، والمؤمن كامل الإيمان، وهذا يعني أنه ليس بالضرورة وجود نظام سياسي في كلّ زمان ومكان، إلّا إذا تحققت الشروط.
المحور الثاني: حكم طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجانب السياسي
لا شك في أنّ الأحكام السياسية النبوية داخلة في طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو كان مبلّغًا للوحي، وقاضيًا وإمامًا للمسلمين، وكان المسلمين يطيعونه باعتبارين:
أ- باعتبار كونه حاكمًا، وهذا يكون لكلّ حاكم بعده.
ب- باعتبار الأحكام التي يضعها ويبيّنها فيما يتعلّق بالجانب القضائي أو السياسي.
وهناك إشكال عند بعض المعاصرين، وهو: أنّ سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - استمدّها الرسولُ وأخذ مشروعيّتها بعد حصول بيعة العقبة، وهذا الكلام له معنيان:
الأول: بُعد تاريخي، وهو: أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تحققت له دولة، ومارس السياسة كحاكم بعد بيعة العقبة، وهذا الأمر لا ثمرة من تقريره.
الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينل مشروعية الحكم إلّا بعد هذه البيعة، فلو لم يُبايعوه، أو بايعوا ثم تراجعوا، فليس له المشروعية أن يكون حاكمًا.
ولا شكّ في أن المعنى الثاني فيه مجاوزة صريحة للأدلة، والذي دفع بعض المعاصرين لتبني مثل هذا الرأي: إشكالية التجاوز في الاعتبار السياسي، وإشكالية محاولة تخريج النظام السياسي الإسلامي وفق المنظومة السياسية الديمقراطية، وأنه لا بد من اختيار الحاكم من الناس.
والجواب عن هذا من وجوه:
أ- أن هذا يمكن أن يكون في غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما هو فإنّه يُطاع لأنه نبيّ، فولايته السياسية على الأمة جزء من نبوّته - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُتصوّر أن يقول شخص: بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في الجانب السياسي، فإنّي سأبايع به قريشًا!
ب- دخول المسلم في الإسلام يقتضي طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلّ الجوانب.
جـ- أن الله - تعالى - أمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا دون تقييد.
د- ما حصل من مبايعة من الصحابة هو التزام منهم بأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وليس يعني أنهم قدموا مشروعية له.
المحور الثالث: التمييز بين التصرفات النبوية
تصرفات النبي - صلى الله عليه وسلم - تكون بعدة اعتبارات، فمن ذلك:
أ- تصرفات باعتباره مبلغًا للوحي، وهذه التصرفات شرع لازم لكلّ الناس.
ب- تصرفات باعتباره قاضيًا بين الناس، وهذه التصرفات تختص بالقضاة.
جـ- تصرفات باعتباره حاكمًا على الناس، وهذه التصرفات تختص بالأئمة.
مثال ذلك: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحيا أرضًا مَيتةً فهي له» اختلف الفقهاء في التصرف النبوي هنا:
- ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّه تصرف باعتباره مبلغًا، وعليه؛ فهذا حكم لجميع المسلمين في كلّ زمان ومكان.
- وذهب الحنفية والمالكية إلى أنّه تصرف باعتباره حاكمًا، وعليه؛ فهذا ليس في كلّ زمان ومكان، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه إمام المسلمين في ذلك الزمن أراد تحقيق مصلحة في ذلك؛ فحثّهم على هذا الأمر، وعليه؛ فليس كلّ شخص بعده يفعل هذا فينال الأرض، لكن الحاكم إذا رأى مصلحة في ذلك يحث الناس على هذا الفعل.
ومن أنواع التصرفات كذلك:
- التصرف بهدف الصلح.
- التصرف بهدف النصح.
- التصرف بهدف التأديب.
- التصرف بهدف المشورة.
وهذا يؤكد لنا دقة وعمق النظر الفقهي في الأحكام، فالفقهاء لا يقرؤون الأحكام بطريقة سطحية كما يظن بعض المعاصرين، بل لديهم غوص في المعاني والمقاصد.
تتمة👇
قواعد في التمييز بين التصرفات النبوية:
الأولى: التشريع هو الغالب في التصرفات النبوية، ولا يُعدل عن ذلك إلا بدليل.
الثانية: ضرورة مراعاة القرائن التي يتوصّل بها الشخص إلى أنّ هذا التصرف بهذا الاعتبار المعيّن.
الثالثة: ضرورة الوعي بكلّ تصرف؛ حتى يتوصّل لطبيعة التصرف، فالعبادات - مثلًا - لا يُتصوّر أن يكون التصرف النبوي فيها باعتباره قاضيًا.
انحراف معاصر في باب التصرفات النبوية:
ذهب بعض المعاصرين إلى أنّ التصرفات التي في الجانب السياسي كلّها مبنية على المصلحة المتغيّرة فهي ليست شرعًا لازمًا، وصاحب هذا الانحراف وقع في غلطين:
الأول: جعل كلّ باب السياسة داخل في التصرفات النبوية التي باعتباره إمامًا، وهذا خطأ، فإذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم واجب في السياسة فهذا واجب ملزم.
الثاني: إلغاء الشرعية عن التصرفات التي باعتبار الإمامة، وهذا خطأ، فنحن لا نقول: هذه التصرفات ليست من الشريعة، وإنما نقول: هي مختصّة بالقضاة، أو الأئمة، وبعد ذلك قد تكون مباحة، أو مستحبة، أو واجبة.
مثال ذلك: أقام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحدود باعتباره إمامًا، وهذا يعني أن إقامة الحدود خاص بالأئمة، فهو متعلق بهم، فلا يقيمه آحاد الناس، وإنما هو واجب على الأئمة.
المحور الرابع: الجوانب السياسية في سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم -
يمكن تقسيم السياسة النبوية من حيث ارتباطها بالسياسة الشرعية وكيفية استنباط الأحكام منها إلى مجالين:
الأول: التطبيق العملي للأحكام (التصرفات السياسية).
الثاني: القواعد والفروع الجزئية.
التطبيق العملي للأحكام
هذه هي التصرفات السياسية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أدار شؤون الدولة خلال المرحلة المدنية، وقام فيها بكل أحكام الأئمة، ويمكن تلخيصها في عدة ركائز:
الأولى: تفويض المهام، فكان يعيّن الأمراء، ويرسل السفراء، ويجبي الزكاة، ويرسل البعوث، وغير ذلك.
الثانية: حفظ حقوق الناس.
الثالثة: إقامة الواجبات الشرعية.
الرابعة: التصرّف الأمور المخيّرة؛ كالتخيير في الأسرى.
الخامسة: التصرف في الأمور المباحة، الموكولة إليه باعتبار المصلحة؛ كعقد الصلح، والتعزير.
هذه الركائز موكولة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السلاطين والأمراء.
القواعد والفروع الجزئية
هذه القواعد تتعلق بنظر فقهي في تفاصيل الأحكام، فهي ليست من باب الواجبات والمصالح المنوطة بالحُكَّام، وهي تفيدنا في الجانب السياسي من جهتين:
أ- أنها تعلمنا كيفية التعامل عند تعارض المصالح والمفاسد.
ب- أنها تكشف عن أوجه معتبرة في السياسة.
وهذه الأحكام كثيرة جدًا، منها:
الأول: ترك قتل المنافقين، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقتل المنافقين في زمانه، وكان يقول: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»، وسبب تركه لقتلهم: لئلا يكون سببًا للطعن في شخصه بأنه يقتل ويعاقب كغيره من الرؤساء والحكام.
وذكر العلماء أن عدم المعاقبة ترجع إلى أمرين:
أ- لأخذ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالظاهر، وإن كان يعلم حقيقة حالهم.
ب- للاشتباه في حالهم، وقد كان هذا الاشتباه إما لأنّهم كانوا يعرّضون ولا يصرّحون، أو لأنّ أمرهم لم يكن ظاهرًا لكلّ الناس.
س: بعض المنافقين كان قد ثبت عليه وجهر بالطعن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك لم يُقتلوا، فلماذا؟
الجواب: للعلماء في ذلك مسالك:
أ- أن هذا الأمر منسوخ، فكان في أوّل الأمر حماية للرسالة من أن يُطعن فيها.
ب- أن هذا الأمر لا يُعمل به إلا في مثل الحال التي كان المسلمون فيها، فإذا لم يكن عند المسلمين قوة وسلطة على مَن يطعن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يتركونه.
جـ- أن يكون في إقامة ذلك تنفير أقوام عن الإسلام وإقامة حرب وفتنة، فإذا انتفى ذلك فإن المفاسد التي هي اقل لا يُلتفت إليها.
وهذه القاعدة التي نتحدث عنها شائعة في عصرنا، لكنّ اللافت هو ضعف إدراك حدود إعمال هذه القاعدة، فهي تستعمل - أحيانًا - بلا ضوابط، فمثلًا: بعض الناس صاروا يبعدون بعض الأحكام التي لا ترتضيها الثقافة الغربية محتجين بذلك، وهذا خطأ منهجي كبير، فلا يصح انتقاء قاعدة واحدة من الشريعة وهدم بقية القواعد.
أمور معينة على ضبط هذه القاعدة:
أ- هناك مساحة واسعة من الشريعة قد حافظت الشريعة عليها ولم تلتفت للمعترضين، ومن ذلك: «الحدود»، و«تشريع الجهاد والسبي والغنائم»، و«قتل صناديد الكفار»، و«الأمر القرآني بجهاد المنافقين والإغلاظ عليهم».
ب- أن يكون الشخص في مقام تنزيل واقعة على أعيان، ووقع فيها اشتباه، وخشي من مفسدة، فهنا تُراعى هذه القاعدة.
وبعض المعاصرين ممن يستخدم هذه القاعدة يكون إشكاله الحقيقي مع الحكم نفسه - كحد السرقة - فاستخدامه ليس نابعًا من الاشتباه في واقع معيّن.
الآثار المستفادة من هذا الحكم السياسي:
أ- العناية بسمعة الإسلام وشرح محاسنه.
ب- مراعاة أفهام المخاطبين، واتّخاذ الأسلوب المناسب في تعليمهم.
جــ- تعميق قاعدة «درء الحدود بالشبهات».
د- الاجتهاد في بيان الحكم الشرعي، وشرح حدوده، وإزالة الغلو والتفريط المتلبس به.
هـ- عدم إقامة الحدود والعقوبات إلا بسلطة وضمانات قضائية.
الثاني: ترك إعادة بناء الكعبة:
عن عائشة - رضي الله عنها - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «ولَوْلا أنّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بالجاهِلِيَّةِ، فأخافُ أنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ، أنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ في البَيْتِ، وأَنْ أُلْصِقَ بابَهُ بالأرْضِ» ففي هذا ترك لإعادة بناء الكعبة على ما كانت عليه من قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - خشية نفور الناس؛ لأنهم كانوا يعظّمون الحرم.
وهذه القاعدة لها ارتباط بالقاعدة السابقة، فالأولى تراعي تنفير الكفار، والثانية تراعي تنفير المسلمين.
حكم إعادة بناء الكعبة:
جاءت إشكالات من المعاصرين على هذه القاعدة كما جاء على القاعدة السابقة، فأصل القاعدة صحيح، لكنّه بحدود، وبمعرفة حكم إعادة بناء الكعبة نُدرك حدود هذه القاعدة.
ظاهر كلام أهل العلم أنّ هذا الأمر ليس واجبًا، وإنما مستحب، ومما يدلّ على ذلك:
أ- أن الأحكام والعبادات المتعلقة بالكعبة لا تتأثر بذلك.
ب- أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بإعادة بنائها، ولم يوصِ مَن بعده بذلك.
وقد سمع عبدُ الله بن الزبير بهذا الحديث فاستشار الصحابةَ بإعادة بناء الكعبة، فأشار عليه جماعة منهم بالتأييد، وآخرون بالرفض، فأخذ برأي المؤيدين، فهدم الكعبة وأعاد بناءها على قواعد إبراهيم، ثم لما قُتل وجاء الحجاج بن يوسف، أرسل إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك، فأمر بإعادة بنائها كما كانت، ثم ندم لما وصله حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاء أبو جعفر المنصور فأراد هدمها وبناءها على قواعد إبراهيم، فقال له الإمام مالك: «يا أمير المؤمنين، لا تجعل بيت الله ألعوبة بيد الملوك، كلما جاء ملك قال: أهدم، ثم أبني» فتركه أبو جعفر.
قاعدة اعتبار النفور في الشريعة:
من الحكم الذي بين أيدينا يتبيّن لنا مراعاة نفور الكفار والمسلمين عن الإسلام، ومع ذلك ينبغي مراعاة هذا الأمر وضبطه، فليس كل عمل منفّر يُترك، ولتحرير هذا لا بد من النظر في قاعدة: «اعتبار النفور في الشريعة»، وعند تتبع الموضوع نجد ما يلي:
أ- أنّ ثمّة أحكامًا حصل فيها إشكال مؤثر في نفور الناس، ولم يتركها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك: «صلح الحديبية»، و«تقسيم غنائم حنين»، و«تحريق نخل اليهود في غزوة بني النضير».
ب- أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غيّر عادات جاهلية كان الناس يستبشعون تغييرها، ومن ذلك: «مخالفتهم في الحج».
جـ- فرض بعض الأحكام المؤدية لنفور الناس، ومن ذلك: «تغيير القبلة».
وبناء على ما سبق كلّه؛ فإن مراعاة النفور يكون في الأمور المستحبة دون الواجبة إلا في حدّ معين سيأتي ذكره.
تعارض إقامة الواجب مع مفسدة نفور الناس:
إذا وقع تعارض بين مصلحة إقامة الواجب ونفور الناس منه؛ فإن إقامة الواجب تقدّم؛ لأمور، منها:
أ- أن ذلك هو الأصل.
ب- أن مصلحة الواجب يقينية، ومفسدة النفور ظنّية.
جـ- أنه يمكن الجمع بين الأمرين، وذلك بإقامة الواجب ودفع النفور بأساليب أخرى، أما ترك الواجب؛ فسيكون فيه مصلحة واحدة فقط.
د- أن دفع مفسدة النفور لا يتحقق بترك الواجب، بل يتعمق؛ لأنه سيقع في نفوس الناس أن هذا الواجب خطأ.
قيد لما سبق:
سبق الكلام أن مراعاة النفور تكون في المستحبات، وهذا من حيث الوضع الطبيعي لتطبيق الأحكام، ووجود نظام مستقر يطبق الأحكام ويقيم الحدود، أما إذا وقعت حالات استثنائية، فهنا يختلف الحال، ومن ذلك: «عدم وجود نظام يحكم الناس»، أو «وقوع فتنة واضطراب الأحوال»، والأمر هنا انتقل من النفور عن الإسلام إلى العجز وعدم القدرة التي سيترتب عليها مفاسد أعظم.
من مجالات الاستفادة من هذه القاعدة:
أ- أنه إذا ترتب على إنكار المنكر نفور من الناس؛ فإنه يُترك، وهذا متعلق بالأفراد، وليس بالسلطة.
ب- ترك بعض المستحبات بقصد التآلف والاجتماع.
جـ- تأخير بعض الواجبات التي لم توجب الشريعة المبادرة فيها.
د- التدرج في تعليم الأحكام لحديثي الإسلام.
هـ- تعليم الناس والرفق بهم في ذلك تأليفًا لهم.
و- الإفتاء بالأيسر من الأحكام إذا خُشي على بعض الناس النفور من الدين.
ز- تجنب ما يشقّ على الناس؛ كالتطويل في الصلاة.
حـ- مراعاة عادات وأعراف الناس إلا في الواجبات
الثالث: قصة مقتل كعب بن الأشرف، ففي هذه القصة عدة أحكام مستفادة، منها:
أ- حكم الكذب في الحرب.
ب- حكم نقض العهد.
جـ- حكم المعاريض في نقض العهد.
د- شبهة الأمان.
هـ- حكم سابّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
و- حكم التعريض بالكفر إذا كان لمصلحة، وذلك أن محمد بن مسلمة قال: «إن محمدًا قد عنّانا»، وقد اختلف العلماء في هذا القول هل هو من باب التصريح أو التعريض؟ الأكثر منهم على أنه تعريض، وذهب بعضهم إلى أنه تصريح، ثم طُرح سؤال، وهو: هل يجوز التصريح بالكفر للمصلحة؟ أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أقوال:
القول الأول: أن هذا كان من باب الإكراه، وهذا ضعيف؛ لأن الإكراه لم يقع - حقيقة -.
القول الثاني: أنه إذن خاص من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن مسلمة.
القول الثالث: جواز ذلك عند الحاجة الشديدة الضرورية التي تمسّ عموم المسلمين، ويستدلون لذلك بعدم التخصيص من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يُقال: الاستدلال المحتمل لا يعمم.
الرابع: إعطاء المؤلفة قلوبهم، وتفضيلهم في العطاء يوم حُنين.
الخامس: وقائع الشورى في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
السادس: تغليب العفو في السياسة النبوية، والقاعدة المستفادة من ذلك: «أن العفو هو الأصل إلا إذا اقتضى الحكم العقابَ».
السابع: عرض الصُلح على غَطَفان في واقعة الأحزاب، فعرض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليهم أن يعطيهم نصف ثمار المدينة على أن يرجعوا، وهذا يدل على مشروعية بذل الأموال لحفظ نفوس المسلمين.
الثامن: وقائع العقوبات والتعازير في السياسة النبوية، ومن ذلك: «هجر مَن تخلف عن غزوة تبوك»، و«همّ بحرق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة».
التاسع: صلح الحديبية وما جاء فيه من تصرفات نبوية.
العاشر: السياسة النبوية في دعوة الناس.
الحادي عشر: تقييد المباح لمصلحة، ومن ذلك: «النهي عن ادّخار لحوم الأضحية فوق ثلاث».
الثاني عشر: تأخير إقامة الحد لمصلحة، ومن ذلك: «تأخيره إقامة الحدّ على المرأة لأنها كانت حاملًا».
جزاك الله خيرا
جزاك الله خيرا